في مشهد يثير الريبة، حذرت إسرائيل، أمس الأحد، المتواجدين في موانئ الحديدة اليمنية – رأس عيسى، الصليف، والحديدة – وطالبتهم بإخلائها على الفور، ملوحة باستهدافها بسبب ما قالت إنه “استغلال حوثي للموانئ في أنشطة إرهابية”.. التحذير جاء بلغة عسكرية واضحة ومباشرة، وتوقّع كثيرون أن الضربة ستكون مسألة وقت، وربما دقائق. غير أن شيئًا لم يحدث.
مرّت الساعات، ولم تطلق إسرائيل رصاصة واحدة باتجاه الموانئ، التي عادت ميليشيا الحوثي لاستغلالها، مستأنفة إدخال شحنات الوقود وترتيب البنية التحتية التي دمرتها الضربات الأمريكية في الأشهر الماضية، هنا، يطرح السؤال نفسه بقوة:
لماذا لم تضرب إسرائيل؟ وما هدفها من تحذير دون تنفيذ؟
ما يظهر على السطح لم يعد يقنع أحدًا. إسرائيل، التي ترفع شعارات استهداف “أذرع إيران”، لم تطلق رصاصة واحدة على مواقع حوثية حيوية منذ بدء التوتر في البحر الأحمر، رغم أن الحوثيين لم يتوقفوا عن الادعاء بأنهم يقاتلون إسرائيل وأمريكا، ورفعوا شعارات المقاومة الزائفة.
لكن الواقع يقول شيئًا آخر.. إسرائيل تدرك تمامًا أن ضرب الحوثيين عسكريًا يعزز من شعبيتهم داخليًا، ويمنحهم فرصة ذهبية لتمرير سردية “المواجهة مع العدو الصهيوني”، فيكسبون بذلك تعاطفًا شعبيًا وإعلاميًا يعيد ترتيب صفوفهم، بل ويجعلهم يبدون كطرف يقاتل إسرائيل بينما الحقيقة أنهم أداة لها، ضمن مشروع مزدوج مع إيران.
الواقع السياسي الإقليمي، يكشف أن هناك تقاطعًا استراتيجيًا بين إيران وإسرائيل، وإن بدا ذلك متناقضًا، فكلا الطرفين يستخدم الحوثيين كأداة ابتزاز مباشر لدول الخليج العربي، وللسيطرة على الممرات البحرية الحيوية، خصوصًا في البحر الأحمر.
إسرائيل لا ترى في الحوثي تهديدًا حقيقيًا، بل تراه ورقة ضغط جاهزة للاستخدام.. وطالما أنه يُستخدم ضد مصالح عربية سنّية، فإن بقاءه ليس فقط مصلحة إيرانية، بل مصلحة إسرائيلية أيضًا.. لذلك، لا يُستهدف الحوثي في الميدان، بل تُستهدف مقدرات اليمن وبنيته التحتية، ليبقى الحوثي قائمًا، فقيرًا لكنه قوي أمنيًا، يتغذى على المعاناة الإنسانية.
ما يعزز هذه الصورة، هو ما كشفه مؤخرًا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، من وجود اتفاق مباشر مع الحوثيين، يقضي بوقف الهجمات المتبادلة بين الجانبين، ضمن تفاهم غامض رعته سلطنة عُمان، بعرض من طهران، الاتفاق يترك للمليشيا الحوثية المجال مفتوحًا لمواصلة تهديد الملاحة الدولية ضد الخصوم الإقليميين، بينما تضمن عدم استهداف السفن الأمريكية، في مقابل وقف الضربات الأمريكية على معاقل الحوثي.
هذا الاتفاق كشف جانبًا خطيرًا، وهو أن الحوثي بات يتعامل مع الأمريكي والإسرائيلي كطرف يمكن التفاهم معه، بل والتحييد عنه، في وقت قد نراه يصعّد فيه ضد اليمنيين والقوات اليمنية، وقد نرى ذلك قريبًا.
في هذا الشأن، لا يمكن فصل ما يجري عن النظرية التي أثبتتها الأحداث مرارًا، أن إيران وإسرائيل ليسا خصمين حقيقيين، بل شريكان في مشروع مشترك يستهدف الأمة الإسلامية، وتحديدًا المسلمين السنة.
الحوثي، كذراع إيرانية، يحصل على الحماية الضمنية من إسرائيل، ويُستخدم كأداة لزعزعة استقرار الجزيرة العربية، وتبرير الوجود العسكري الأمريكي–الإسرائيلي في البحر الأحمر، الذي يزداد تمددًا تحت ذريعة “حماية الملاحة”.
اليمن اليوم، ليس فقط ساحة صراع، بل ساحة كشف الأقنعة.